ثلاثة الواح طينية اذهلت العالم و افصحت عن اربعين طريقة لاعداد الطعام استخدمها سكان الرافدين , و فندت المزاعم القائلة ان قوت الانسان كان جذور النباتات و أوراق الشجر ولحم الحيوانات النيء .
يعد المطبخ وادواته وسيلة اساسية يمكن عن طريقها فهم حضارة بأكملها .فالطعام و الشراب ليسا موضوعين عاديين يستهان بفكرتيهما . و بين لنا جون بوتيرو في كتابه الذي حمل عنوان
" اقدم مطبخ في العالم " مفاهيم الالواح الطينية الخاصة بسكان وادي الرافدين التي عثر عليها منقبو الاثار في جامعة يال و المؤرخة الى 1700 عام قبل الميلاد . كما سمح لنا بألقاء نظرة شاملة على موائد الهة وكبار الشخصيات و الطقوس الخاصة بالجلوس والمكان المخصص للاشربة و كيفية تقديم الاطعمة في العصر البابلي . و تتجلى اهمية الكتاب بأبراز الحالة الاجتماعية للطباخين و مجمل العلاقات بين فن الطبخ و مفهومي الحياة والموت . حيث تظهر لنا طريقة المزج بين الخضروات و الاعشاب و التوابل واللحوم غريبة بعض الشئ لكن تنفيذها ليس مستحيلا في الوقت الحاضر . اذ ما نفذت تعليماتها بدقة .
في بادئ الامر , كانت النظرة الى تاريخ الطعام سوداوية للغاية قبل هذا الاكتشاف . حيث تخيل المؤلف اوغسطس اسغوفييه ( 1847 - 1935 ) و الملقب بأمبراطور الطباخين واقع هذا التاريخ قائلا :
سكن اقدم شعوب العالم المغارات المظلمة و اقتاتوا على جذور النباتات البرية و الاسماك الحية و الحيوانات التي يقتلونها بحرابهم البسيطة . وبالنسبة اليه حملت هذه النظرة شيئا من التفاؤل لان الواقع كان اسوأ بكثير . و قبل الميلاد بمليون سنة كان الانسان البدائي يقطف الثمار و يأكل البطاطا الناضجة و عنيبات البيلسان و كان يقتات على اوراق الشجر و النمل و الذباب و الجراد و احيانا ( كما في زعم اسغوفييه ) على لحوم و دماء الحيوانات الصغيرة كالفئران و الضفادع . و بعده بسنوات بدأ انسان النيادرتال يتذوق اللحم المشوي و يستطعم نكهته . تلاه الانسان ( غرومانون ) الذي ناقش مواضيعا عدة لدى جلوسه بالقرب من النار حاملا قطعة من اللحم خالية من الملح .
و تدريجيا تعلم الانسان كيفية طبخ الطعام و مزج النكهات , و منذ وقت طويل , عد كتاب (فن الطبخ ) للمؤلف الروماني الذي عاش في بداية القرن العشرين و المعروف بشراهته و حبه للاكل
( ايبسوس ) المرجع الاكثر قدما للطباخين لما يحويه من نصائح و طرق عديدة لاعداد الوجبات المتنوعة .
اختفت هذه النظريات و هذه النظريات و هذه الكتب بأكملها اليوم ازاء هذا الاكتشاف الجديد . فالكتاب اعلمنا بوجود المكونات الاساسية لاعداد الطعام لدى الانسان القديم , كالحنطة و الشعير و الزيت و بذور السمسم و التمر و الفول و العدس . و بالنسبة للحوم فضل طباخوا وادي الرافدين اكتاف الثور الغنية بالدسم و لحوم الخراف و الحمام البري و الاسماك الصغيرة بأنواعها كافة .
و احب الاكلات اليهم تمثلت بمرق اللحم و الحساء الاشوري و المرق الاحمر للحم الايل و الغزال و اليخنة كثيرة التوابل ناهيك عن الطبق الرئيس ( الثور المحشي و المحاط بعصافير صغيرة ).
و في احدى هذه الالواح , نجد شرحا تفصيليا مكونا من اثنين و اربعين فقرة لاحدى الاكلات التي حضرها رئيس الطباخين لتلميذه .
" حسنا اذا كل ما عليك فعله هو تفريغ هذه العصافير من محتواها كالمعدة و الحوصلة ثم ترش عليها قليلا من الملح و تضع اجزائها في القدر مع قطعة متوسطة من الشحم ".
ومن معتقداتهم ايضا , خصصت اللحوم الطازجة للالهة و الاشخاص ذوي المكانة الرفيعة يتصدرهم الملك و حاشيته , ومن المهم القول ان اللحوم و نضجها بحاجة الى بالدرجة الاساس الى النار التي يكن لاضرامها في ذلك الوقت اي مشكلة كما يبدو . فهي معروفة منذ عصر الاله فولكان و هو احد ابناء الاله جوبيتير و الالهة جونون . و اكدت الاكتشافات القديمة انهم وضعوا قصعا من العظام حول النار ثم صنعوا قوالب جاهزة تشبه التنور كي تحافظ على المواد الغذائية و تنمحها نكهة خاصة لاسيما الخبز . وتعتمد هذه القوالب بالاساس على مادة الكاربون الموجودة في الاخشاب .
و قد فضل عامة الناس اكل الخضروات الطازجة و طهي المرق في اوعية صغيرة و اكتفوا في اغلب الاحيان بشي العصافير و الحمام و الطيور الاخرى لبضع دقائق . كما تعلموا طريقتي التمليح و التجفيف . و نقلت الينا احدى الالواح الكلام المنقول عن مالكة لاحدى المحال :
" اضع هذه الاغذية في الملح كي احافظ عليها مدة اطول "
و لم يكتف جين بورتيرو بنقل مضمون هذه الالواح و انما عرض لنا صورا خاصة بفن الطبخ منها طريقة التزيين بالاصداف البحرية التي تعود للعصر السومري الجديد اي نحو الفين ومائتي سنة قبل الميلاد و عثر على العديد من الاوعية و المغارف يعود زمنها للالفية الثالثة . و هذا خير دليل على ان الاشياء الضرورية المستخدمة لاعداد الطعام كانت معروفة مسبقا عندما قرر ابناء وادي الرافدين او كما وصفهم المؤلف (بنقاد الاطعمة) تدوين هذذ الالواح .
كان هم بوتيرو الاول ابراز فكرة كرامة هؤلاء الطباخين الذين يعود اليهم الفضل في تنظيم الموائد و الولائم الكبيرة في الاعياد المقدسة . لذا لا يخلو اي بيت من بيوت الاعيان منهم على سبيل المثال كان منزل ملكة نينوى يحتوي على ثلاث مئة اداة منزلية متنوعة و عشرين نديما(ساقيا) و اربعمئة طباخ و اربعمئة حلواني . وكان المشرف على عملهم نخبة من امهر الطباخين و اشهرهم وكان من عادة هؤلاء قتل انفسهم بالسيف عندما يشارفون على الموت دلالة على نبل مهمتهم . و استمر هذا التقليد لدى اجيال طويلة مخلدة ذكرى اوائل الطباخين الذين امتهنوا هذا العمل .
وما يضفي على هذا الكتاب كثير من الاهمية هو تصوير بوتيرو لمعادلة جمعت بين الاطعمة من جهة و مفهومي الحياة و الموت من جهة اخرى . على سبيل المثال , خطورة الاطعمة المقدمة من ( انو ) ملك الالهة و العالم العلوي لانها تسبب الموت للانسان بينما كان (انو) يتبارى في تقديم الذ انواع الطعام لضيوف مجلسه . ونتيجة لهذا الخطر , اعلم الاله ( ايا ) طباخه في معبد اريدو (ادبا) اذي تعرض لهجوم رياح الجنوب , فكسرت جناحيه كلتيهما , ان لا يلمس شيئا من اطعمة الاله انو . فامتثل الطباخ لامره في الحال .
و لا ننسى حكاية العاشقة الغيورة التي اغرت صديق كلكامش ( انكيدو البربري ) و اعدت له مكانا لدى الرعاة بعدها علمته تناول الطعام مثل الناس العاديين .
ومن القوالب المهمة التي وصلت الينا في هذا الشان , القالب المزخرف على هيئة سمكة والبارو من انية الملكة ماري . يعود صنع هذا القالب الى 1750 عام قبل الميلاد وهو موجود حاليا في متحف اللوفر. هكذا وضح المؤلف الارتباط الاساسي بين مفهومي الحياة و الموت و نظام الطعان المتعارف عليه انذاك .
و بهذه الفكرة انهى المؤلف كتابه الشيق والمثير الذي منحنا الاحساس بفيض من مشاعر الامتنان كرسها لابناء هذه الحضارة .
فقد عرف كيف يحسن الحديث عنهم و عرف كيف يتناول قضاياهم من الزوايا كافة عبر دراسات قيمة ادرجها بالتوافق مع الحقب الزمنية الخاصة بظهورها مضيفا بذلك وثيقة نادرة وجديدة في سجل الابداع الابدي (وادي الرافدين ) .